عندما كتب الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدته التائية المعروفة متكلّماً على لسان اللغة العربية:
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً
من الموت يدنيني بغير أناة
فإنّه كان يشير بطرف خفيّ إلى مصطلح قد انتشر في عصره وهو مصطلح (لغة الجرائد) وتشير هذه العبارة في كتُبِ أهل اللّغة، إلى كل كتابة خَرَجَتْ (عَنْ قَوَاعِدِ الصّياغة والتركيب التّي ألِفَهَا العَرَبُ في لُغتهم) وربما أوْمأتْ أيْضاً إلى كل أسْلُوب متهافت، قلق العبارةِ، شَذَّ لفْظُه (عن منقول اللّغة، فأنْزِلَ غير منازلِهِ، أو استُعْمِلَ في غير معناهُ).
وجليٌّ أن هذه العبارة تَهْجسُ بحنين الشاعر للُغة آخذة في الزوال والاندثار، يَعُدُّها مبرّأة من كلّ شائبة، تجري على سنن العرب في البيان والتّعبير. هذه اللغة هي لغة التّراث والذاكرة، قد وجدتْ، في نظره، كاملة مكتملة بحيث يصبح كل خروج عنها عدولاً عن الأصْل، وانتهاكاً للقاعدة.
وجليٌّ أيضاً أن هذه العبارة تهجس أيضاً بخوف الشاعر من بروز لغة جديدة تخرج عن أساليب الإنشاء القديمة، وتؤسّس لنفسها (أسلوباً مختلفاً) تمتَحُ عناصره من أقاليم لغويّة جديدة..
والواقع أنّ (لغة الجرائد) هي اللّغة التّي لم تكتفِ باسترفاد اللّغة الأمّ، تحافظ على نقاء عبارتها، وسلامة قواعدها، وإنّما استرفدت لغات ثانية أخذت عنها طرائقها في تصريف ونظم الكلام.
من هذه اللّغات اللّغتان الفرنسيّة والإنجليزية، فإليهما تعود الكثير من تراكيب لغة الصّحافة وأساليب صياغتها وقد انعطف الباحث المرحوم إبراهيم السّامرائي على هذه التراكيب المستحدثة فردّها إلى أصولها الأجنبيّة.
وإذا كانت مناهضة أهل اللّغة لاسترفاد الصحافة اللّغات الأجنبية قويّة شديدة فإنّ مناهضتهم لاسترفادها العاميّة كان أقوى وأشدّ، إذ عدّوا كلّ ما يتّصل بها بمثابة (الشوائب) التي ينبغي صيانة الأقلام منها وتحدّثوا حديث السّاخر، عن لغة العامّة وفساد عبارتها.
ومن بين هؤلاء الشيخ إبراهيم اليازجي الذي أصدر سنة 1880، والصحافة العربيّة مازالت حديثة النّشأة، مجموعة من المقالات بعنوان (لغة الجرائد) أبرز في مستهلّها موضع الجرائد من الأمّة، ومالها من التأثير في مداركها، وأذواقها، وآدابها، ولغتها، وسائر ملكاتها (وهذا التأثير كان يُنسبُ، قديماً، إلى الشعر) ثم عرّج، بعد ذلك على الأخطاء التي تسرّبت إلى الصحافة فشوهت عبارتها، وذهبت بمواطن الحسن فيها، فعمد، مخافة أن تفسد اللغة (بأيدي الموكول إليهم إصلاحها) إلى الإشارة إلى وجوه تقويمها.
كان الشيخ اليازجي يعتقد أن الصحافة لا بد أن تتجنب، بعد نشر مقالاته، تلك الأخطاء فلا تكررها لكنه لاحظ أنها -أي الصحافة- لم تكترث لتلك المقالات وظلت تردد (الأخطاء) نفسها غير عابئة بوجوه التقويم التي جاءت فيها.
كما أن لغة الصحافة قد دفعت بالمجمع المصري على وجه الخصوص إلى الاهتمام بالتراكيب والأساليب المستحدثة في الصحافة فعمد إلى قبول بعضها وتقويم بعضها الآخر..
ولئن ظلت فئة من الباحثين من أهل اللغة تقول بالخطأ والصواب، وتعمد، كل مرة، إلى تقويم أخطاء الصحافة فإن أكثر الباحثين قالوا بالتطور، وذهبوا إلى أن لغة الصحافة هي تحديث للغة العربية وتجديد لبناها وتراكيبها، بل إنّ الباحث (إبراهيم السامرائي) ذهب إلى أنّ لغة الصّحافة تمثّل (ضرباً جديداً من العربيّة) ومن جديدها بعض ملامح من نحو وصرْف جديدين، وانصراف الكثير من الكلمات فيها إلى معان جديدة.
وفي هذا السياق تذهب الباحثة الجزائرية زينب حمو إلى أن ما اعتبره رجال اللغة خطأ ليس إلا ضرباً من (العدول) أو (الانزياح) وهاتان العبارتان المستعارتان من معجم اللسانيات إنما تدلان على خروج النص عما استتب من قواعد واستقر من قوانين.. لكن هذا الخروج ليس عشوائياً وإنما تفرضه، في الواقع، أسباب شتى تبرر استخدامه وتخلع عليه الشرعية.
لا نريد في هذه الورقة أن نستعرض مختلف مواقف أهل اللغة من (لغة الصحافة) لكن نكتفي بالقول إن أكثرهم أصبحوا يقرون بقانون التطور يُسوّغُ العدول عن لغة الأسلاف كما يسوّغ البحثَ عن آفاقٍ تعبيرية جديدة.
أجل إن لغة الصحافة، هذه التي أمعن أهل اللغة في نقدها، قد أثّرت، في اعتقادنا، تأثيراً حاسماً في مجمل الخطابات الأدبية المعاصرة من ذلك لغة الشعر والرواية..
لكن الأهمّ من ذلك أنّ هذه اللغة باتت كما يقول بعض الباحثين (لغة مشتركة) بين مختلف الأقطار العربية فأخذت الفوارق في اللهجات تختفي شيئاً فشيئاً، وظهر ما يمكن أن نسميه باللهجة المشتركة التي تكاد تنعدم فيها الصفات المتميزة لقطر من الأقطار.. بل إن هذه اللغة، كما لاحظ الباحث، محمد حسن عبدالعزيز، قد أسهمت في توحيد اللهجات داخل القطر الواحد، وأسهمت مساهمة فاعلة في تأكيد الوحدة الثقافية للقطر الواحد..
هذه اللغة التي باتت سلكاً ناظماً لكل البلاد العربية تجمع بين مختلف ألسنتها، وترتفع فوق جميع لهجاتها، تعد ثمرة من ثمار وسائل الإعلام الحديثة وأثراً من آثارها.
صحيح أن هناك مصدرين اثنين يؤثران في تطور اللغة تأثيراً حاسماً وهما الكتاب ووسائل الإعلام، كما يردد الباحثون، لكننا إذا التفتنا إلى مجتمعاتنا العربية وجدنا أن وسائل الإعلام أقوى أثراً فيها من الكتاب وأوسع انتشاراً..
لهذا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان إن وسائل الاتصال الحديثة هي التي أعادت صياغة اللغة الفصحى إذْ أخضعتها إلى مقتضيات الحياة المعاصرة وحررتها من إنشائيتها الفضفاضة، وجعلتها أقرب إلى إيقاع الحياة الجديدة..
ربما خرجت لغة وسائل الاتصال الحديثة أحياناً عن قواعد الفصحى وقوانينها واستخدمت ضروباً شتى من التراكيب المستحدثة، والمجازات الجديدة، لكنّ هذا لا يمكن اعتباره ضرباً من الخطأ ينبغي الانعطاف عليه بالتقويم والتصويب، فلغة وسائل الاتصال، في مجملها، حافظت، رغم ترخصها في القواعد، على قوانين الفصحى، وعلى نظاميها النحوي والصرفي ولكنها أفادت، في الوقت ذاته، من أقاليم لغوية أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية فازدادت بذلك غنى واتساعاً.. وباتت أقدر على الإحاطة بالحياة المعاصرة بكلّ تفاصيلها فأصبحت اللغة العربية، كما قال أحمد مطلوب، بفضل لغة الصحافة، قادرة على التعبير عن الحضارة في أجلى صورها بفضل ما طرأ عليها من نموّ وتطوّر في ألفاظها وأساليبها استجابة لتطوّر الحياة وتقدم الحضارة والاتصال بالثقافات المختلفة.
محمد الغزي: تونس