هل يختلف رمضان في المجتمعات الغربية التي يعيش فيها ملايين المسلمين أقليات وسط أجناس يختلفون عنهم في الدين والمعتقد؟ سؤال يتبادر إلى الأذهان ونحن نستقبل ونعيش شهر الصيام في مجتمعاتنا الإسلامية بمظاهر وطقوس وعادات وتقاليد قد تتشابه أو تختلف من دولة إلى أخرى.
صحيح أن الصيام واحد في كل مكان، من حيث الفرائض والسنن والشعائر والأحكام والواجبات والمستحبات، والمسلم الأوروبي يلتزم بما يلتزم به غيره من المسلمين في الدول العربية وغيرها من البلدان الإسلامية من فقه الصيام؛ ولكن تختلف المظاهر وطرق الحفاوة والاستقبال وأسلوب الحياة لأيام رمضان ولياليه من دولة إلى أخرى، وبخاصة فيما يتعلق بمجتمع الأقليات المسلمة في أوروبا وغيرها، وقد تظهر بعض القضايا والخلافات الفقهية التي تتعلق ببعض الأمور الخاصة بالصيام، وظروف الصوم من بلد إلى آخر.
طول فترة الصوم
ففي عدد من المدن الأوروبية تظهر مشكلة، تتمثل في طول فترة الصيام، إذ تصل في بعض المدن إلى عشرين ساعة، مثل مدينة بروكسل عاصمة بلجيكا، حيث يؤذن للفجر عند الساعة الثالثة، وهو وقت الإمساك، بينما يؤذن للمغرب عند الساعة العاشرة تقريباً. ولذلك أفتى إمام مسجد المركز الإسلامي في بروكسل منذ سنوات بأن من شق عليه الصوم سواء لطول مدة اليوم أو لشدة الحر يجوز له أن يفطر ثم يقضي مكان تلك الأيام، حين يكون النهار نسبياً، ويشترط أن يشق عليهم الصوم مشقة شديدة. ولكن أغلب المسلمين في أوروبا يرفعون شعار الصبر لمواجهة طول فترة الصوم.
والمجلس الأوروبي للإفتاء يتولى دراسة عدد من القضايا المرتبطة بالصيام في الأماكن التي يطول فيها النهار بصورة كبيرة، حيث يوجد بعض المناطق في غرب أوروبا لا تغيب عنها الشمس إلى ما بعد الحادية عشرة مساء.
وبسبب طول فترة الصيام، ووصولها إلى عشرين ساعة؛ ذهب بعض القادمين الجدد إلى الصيام على مواقيت بلدانهم، وهؤلاء يفطرون في وضح النهار، وبما يخالف الشرع الإسلامي.
ولكن هذا النوع من الاجتهاد حصل في بلدان قريبة من القطب الشمالي، كالسويد والنرويج وغيرها، حيث يقصر الليل في الصيف ليصبح مجرد بضع ساعات، كما أنه في بعض المناطق لا يظهر غياب الشمس لعدة أيام. وقد أفتى الأزهر عام 2010م، بأن من يصوم من المسلمين في تلك المناطق، يمكنه إما الصيام وفق مواقيت أقرب بلد إليه فيه غروب واضح، أو الصيام وفق مواقيت مدينة مكة.
الاختلاف الفقهي
ومن القضايا الرمضانية التي تشغل بال المسلمين في أوروبا كل عام؛ الاختلاف على بداية الصيام وعلى موعد العيد، وأيضاً على وقت الإمساك وصلاة الفجر.
ويعتمد المسلمون في أوروبا على ما تبثه وسائل الإعلام عن ثبوت هلال رمضان، إذ قلما يخرج أحد من المسلمين هناك لالتماس رؤية الهلال، والأعجب من ذلك أن كثيراً من الجاليات الإسلامية هناك تعتمد في بدء صيامها والانتهاء منه على رؤية البلد الذي تنتمي إليه، أو المراكز الإسلامية التي تتبع لها، ولا تكترث بما وراء ذلك، الأمر الذي يكرس الفرقة والاختلاف بين المسلمين.
مواقيت موحدة
والجغرافيا عادة ما تحسم هذه الخلافات، فهناك مواقيت موحدة لكل بلد، لكن الأمر مختلف في بلدان أوروبا، وبخاصة عندما يحدث خلاف بين أئمة البلد الواحد، وهذا الخلاف يحول دون إظهار وحدة المسلمين، فقد يكون المسلمون في مدينة أوروبية واحدة، بعضهم يحتفل بالعيد وبعضهم صائم، نتيجة لاختلاف المذهب والفقيه.
وبالرغم من وجود هيئات للبت في شؤون المسلمين بالدول الأوروبية؛ إلا أن أئمة المساجد لا يزالون يقومون بدور أساسي، فلا يلتزم جميعهم بنتائج اجتماع أكبر ثلاث هيئات للمسلمين في دولة مثل بلجيكا، واتفاقهم على جدول مواعيد موحد. وتختلف الآراء ليس فقط وفقاً للاجتهادات، بل أيضاً تبعاً للبلد الأصل لكل إمام، سواء أكان مغربياً أم جزائرياً أو تونسياً، أو غيره.
ويرى المركز الإسلامي في بروكسل أنه يجب عدم الإكراه على رأي واحد ما دام هناك مسوغ شرعي للاختلاف، وأن الخلاف سببه طول النهار وقصر الليل، ما يصعب قياس وقت العشاء، وبالتالي تحديد وقت الفجر، وخلط ذلك بموعد الإمساك، لكن الاجتهاد يبقى مفتوحاً لرفع المشقة عن المسلمين.
الشباب وصراع الهوية
ومما يشغل بال المسلمين الأوروبيين في شهر رمضان، ما يمكن أن نطلق عليه (صراع الهوية)، خصوصاً بين فئات الشباب، فالشباب المسلم في تلك الديار تائه بين الحفاظ على هويته وأصالته والتمسك بأحكام دينهم، وبين مغريات الحياة الغربية ومفاتنها ومباهجها، وهم بين هذا وذاك يعيشون صراعاً مريراً، وجهاداً كبيراً، لكنهم في العموم يقيمون حرمة ووزناً لهذا الشهر المبارك، فهم يلتزمون صيامه، ويحرصون على قيامه، ولا يمنع ذلك وجود بعض الشباب الذي فتنته مباهج تلك الحضارة، فلم يعد يقيم وزناً لدين، ولم يعد يأبه بشيء يمت إلى الدين بصلة. وليس من العسير عليك أن تجد بعضاً من هؤلاء الشباب وهو يدخن لفافته (السيجارة) أو يأكل أو يشرب على مرأى من الناس.
والعجيب في هذا الأمر، أن بعض المسلمين هناك لم يعد يكترث كثيراً لمظاهر الإخلال التي قد تصدر عن بعض الشباب المسلم، بل أصبح الأمر بالنسبة لهم نتيجة طبيعية للعيش في تلك البلاد.
أجواء بلجيكية مألوفة
وأما ما يتعلق بمظاهر الاحتفاء برمضان في أوروبا، وما يشتهر بين المسلمين هناك من عادات وتقاليد رمضانية؛ فإن هذه المظاهر قد تتشابه إلى حد كبير من دولة إلى أخرى، وقد تختلف من حيث الضعف والقوة.
ففي بلجيكا التي تضم واحدة من أنشط الأقليات المسلمة على مستوى أوروبا كلها، وأكثرها فعالية ومشاركة في الحياة العامة، حيث تم الاعتراف الرسمي بالإسلام عام 1974م؛ تعتبر أجواء شهر رمضان، وبخاصة في العاصمة بروكسل، هي الأقرب إلى الأجواء الرمضانية السائدة في مدن العالم العربي والإسلامي، وذلك مقارنة بأي عاصمة أوروبية أخرى، ولا يشعر من يزور بعض أحياء المسلمين هناك خلال الشهر بأنّه في بلد أوروبي، فالأحياء المسلمة تكثر فيها أفران الخبز العربي ومحلات الحلويات المغربية والشرقية، فضلاً عن محلات المواد الغذائية التي تعرض سلعاً مستوردة في معظمها من البلدان الأصلية، ومحلات بيع اللحم الحلال بأنواعه، وسلسلة من المقاهي والمطاعم التي تفتح أبوابها قبل قليل من أذان المغرب، وتستقبل الصائمين بالتمور والحليب والقهوة والخبز والبيض والحريرة والحلويات، وتبقى مفتوحة إلى وقت متأخر من الليل. وتتميز هذه المطاعم والمقاهي بأنواع الحلويات والمشروبات التي تقدمها لزبائنها، وكذلك طرازها المعماري العربي وديكوراتها التقليدية.
وهناك تعلن بعض المطاعم والمقاهي العربية عن تغيير مواعيد العمل للتوافق مع شهر رمضان، خصوصاً أن معظمها يحرص على توفير إفطار مجاني للصائم الذي يضمن إفطاراً مجانياً، سواء من خلال المطاعم أو المقاهي أو المساجد أو المركز الإسلامي، فالمركز الإسلامي في العاصمة ينظم ما يطلق عليه مطعم الصائم، ويستضيف يومياً أكثر من 300 شخص عند الإفطار.
فنلندا وإفطار رسمي
وفي دولة مثل فنلندا التي اعترفت بالإسلام بوصفه ديناً رسمياً منذ عام 1925م؛ نجد أن شهر رمضان يعد فرصة يستغلها المسلمون لاستعادة روح رمضان التي يفتقدها العديد منهم بعدما فارق وطنه الأصلي، وقد تنبهت الحكومة الفنلندية منذ سنوات قريبة إلى أهمية التعرف على عادات وتقاليد الجالية المسلمة، فقامت وزارة الخارجية بإقامة أول حفل إفطار دعت إليه رموز الجالية الإسلامية، وقام التليفزيون الفنلندي بإذاعة وقائع هذا الحفل، وأصبحت مأدبة الإفطار هذه عادة سنوية، ولكنها اتخذت بعداً جديداً، حيث بدأت الوزارات المختلفة تتسابق في إقامة مثل هذه المأدبة الرمضانية للحفاوة بالمسلمين في هذا الشهر.
وهذا ليس بمستغرب، فالدستور الفنلندي يكفل حرية العقيدة، ويلزم الدولة بضرورة تقديم بعض التسهيلات من أجل إحياء بعض الطقوس الدينية، لكل من يقيم على الأراضي الفنلندية، وهذا ما يساهم إلى حد كبير في ربط أبناء المسلمين بثقافتهم الإسلامية، والاندماج في المجتمع الفنلندي.
إفطار رئاسي في النمسا
وفي النمسا التي تضم أقلية مسلمة نشطة، يصل عددها إلى نصف مليون نسمة، يمثلون تقريباً 5 % من تعداد السكان؛ نجد أن المسلمين هناك يتمتعون باعتراف فريد من نوعه في أوروبا، وهو الاعتراف بالإسلام بقانون نمساوي صدر لهذا الشأن منذ ما يقرب من مئة عام، وعن طريق هذا الاعتراف، استطاع المسلمون تأسيس الهيئة الدينية الإسلامية التي تمثلهم أمام الهيئات الرسمية والمجتمع النمساوي، وينضوي المسلمون جميعاً تحت لواء هذه الهيئة التي تختص بالنظر في شؤون المسلمين.
وقد جرت العادة أن يدعو الرئيس النمساوي ورئيس البرلمان وعمدة فيينا، المسلمين لحضور حفل إفطار جماعي يقام في رمضان، برهاناً على احترام وتقدير المسؤولين للجالية الإسلامية، ويقام هذا الحفل في (الهوفبورج) مقر إقامة الرئيس النمساوي، وفي البرلمان النمساوي ومبنى بلدية فيينا، ويجهز الطعام طبقاً للشريعة الإسلامية، ويعد هذا التقليد نموذجاً واضحاً على قيام النمسا، ومدينة فيينا بشكل خاص، بمبادرات إيجابية تجاه الإسلام والمسلمين.
كما يبدي رئيس الجمهورية النمساوية حرصه الشخصي على استقبال رؤساء وممثلي الجمعيات والهيئات الإسلامية في البلاد في حفل خاص بقصر هوفبورغ الإمبراطوري لتهنئتهم والجالية الإسلامية بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك.
ويوجد في الجيش النمساوي مجندون مسلمون، يتمكن كل منهم من إقامة الصلوات الخمس وصيام رمضان، ويعطى وجبة إفطار كل يوم، ويمنح إجازة في العيدين، وإجازة لأداء صلاة الجمعة. كما أن المراكز الإسلامية تحرص على تقديم البرامج الدعوية وبرامج الوعظ والمحاضرات وصلاة التراويح في رمضان، وإعداد الوجبات المجانية للإفطار في المساجد.
تعزيز الهوية في السويد
وفي السويد ينتهز المسلمون شهر رمضان للحفاظ على تقاليدهم الشرقية وتعزيز هويتهم الإسلامية، ابتداء من المنزل، ومروراً بالمسجد والمدرسة، وانتهاء بالشارع السويدي. ويبدأ التحضير لهذا الشهر اجتماعياً واقتصادياً، كما يتم ترتيب مواعيد العمل والدراسة وفق توقيت الإمساك والإفطار، حتى تتمكن العائلة من الاجتماع على مائدة الإفطار.
ولا تعترض الحكومة السويدية على موائد الإفطار أو التجمعات التي يدعو إليها المسلمون، بل تقدّم كل الدعم والتسهيلات بما في ذلك الماديّة حتى يؤدي المسلمون مناسكهم وشعائرهم بحريّة.
وتهتم أغلب العائلات المسلمة بمشاهدة التلفاز بحلته البرامجية الرمضانية الجديدة والغزيرة التي تنهال من كل حدب وصوب خلال الشهر، إذ تتجه أنظار الصائمين نحو شاشات التلفاز محاولين التواصل مع مجتمعاتهم وعاداتهم الرمضانية عبر الأثير.
وقبل حلول رمضان بأسبوع، تبعث كافة المدارس السويدية باستمارة إلى أولياء التلاميذ المسلمين، وفيها تطلب منهم التوقيع على الاستمارة وإخبار إدارة المدرسة إذا كان أبناؤهم سيصومون هذه السنة أو لا، لتقوم المدرسة بمساعدة الصائمين وعدم تقديم وجبات الطعام إليهم، حيث أنّ الأطفال في السويد يتغذون في مدارسهم.
رمضان في فرنسا
وفي فرنسا يتحمل المسلمون مشقة صيام يدوم 18 ساعة يومياً، لكن يخلق شهر رمضان بهجة بمختلف المدن في بلاد تحتل الديانة الإسلامية فيها المرتبة الثانية بعد المسيحية، ويزيد عدد المسلمين فيها عن خمسة ملايين نسمة.
وخلال رمضان تتنافس الجمعيات العربية والإسلامية على توزيع وجبات مجانية للفقراء والمهاجرين غير الشرعيين، ومن ذلك خيمة (شوربة للجميع) التي تعتمد على التبرعات من المواطنين باختلاف دياناتهم لخلق جو من التعايش داخل المجتمع الواحد ويؤمها يومياً 700 شخص.
وتبدو الحفاوة برمضان في أكثر الأحياء الشعبية بالعاصمة باريس التي تكتظ بالمتسوقين من المسلمين والسياح الذين تجلبهم رائحة التوابل والحلويات و(المشاوي). وقد اعتمدت معظم شركات الاتصالات الفرنسية تقنيات عدة للإعلان عن مواعيد الإفطار والإمساك، كما نجد القناة التلفزيونية (لا لوكال) تبث الأذان طيلة الشهر كسابقة من نوعها في دولة علمانية. وموائد الرحمن الرمضانية تخصص لاستقبال الجميع باختلاف دياناتهم لتعريفهم بصورة الإسلام الحقيقية. والمطاعم تضع على طاولاتها تزامناً مع دنو الغروب حبات من التمر واللبن لجلب الزبائن الصائمين إليها، إضافة إلى وجباتهم المفضلة كالشوربة والحلويات الشرقية.
بريطانيا والتنوع الثقافي
وفي بريطانيا نجد أن التنوع الثقافي والديني الذي يُعتبر سمة أساسية من سمات المجتمع البريطاني، وهو تنوع تحرص الحكومة البريطانية على الحفاظ عليه وحمايته ودعمه. ولذلك تبدو مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان في المساجد والمراكز الإسلامية ووسائل الإعلام والجامعات البريطانية ومراكز الرعاية الصحية، حيث بثت القناة الرابعة البريطانية أذان الفجر طوال رمضان، فضلاً عن عرض سلسلة من البرامج كجزء من التعريف به، كما تقام الخيم الرمضانية في أماكن عديدة في بريطانيا ومنها جامعة لندن، حيث يقيم طلاب وخريجو كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة للجامعة خيمة رمضان في الجامعة، ويتم تقديم وجبات الإفطار، وتوجيه دعوات للمشردين، وكذلك لأبناء الأديان الأخرى للانضمام إلى الخيمة. ويقوم مركز (سانت جوزيف) للرعاية الصحية في لندن بتقديم الخدمات الطبية والنصائح للمسلمين المصابين بالسكري، خلال صومهم شهر رمضان.
ويقدم مسجد شرق لندن الذي أنشئ عام 1910 أنشطة إسلامية متنوعة خلال رمضان، تشمل موائد الإفطار الكبرى وصلاة التراويح وقراءة القرآن والأدعية. ويحضر ليالي رمضان مئات المسلمين من جاليات مختلفة.
ألمانيا وحفاوة أقل
وفي ألمانيا التي تضم قرابة خمسة ملايين مسلم، نجد أن الحياة في رمضان تظل عادية تماماً بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون هناك، بين عمال وضيوف ودبلوماسيين وموظفين وطلاب ولاجئين ومرضى يتلقون العلاج، فلا شيء يتغير، وهي من أقل البلاد الأوروبية حفاوة برمضان. ويسعى المسلمون إلى تعويض هذه الأجواء الجماعية التي تميز الدول الإسلامية في شهر رمضان من خلال تحضير إفطارات جماعية للأسرة والأصدقاء. فنجد الاتحاد العالمي للطلبة المسلمين في آخن يحرص منذ ست سنوات على تنظيم إفطار جماعي يدعو إليه المسلمين وغير المسلمين. وأما البعثات الدبلوماسية التابعة لدول إسلامية فتراعي في هذا الشهر صوم العاملين فيها، وتغيير أوقات العمل الرسمي لتتناسب مع مواعيد الصيام والإفطار.
أحمد أبو زيد