مناهج الحياة
أليس في وسع المرء أن يعيش في هذا العالم دون أن تُطبع رُوحُه بطابع الملة وتُصبغ بصبغة الطائفة، ألا يقدر أن يكتسب ثقةَ إخوانه البشر دون أن يُعلن تَشَيُّعَهُ ويُفاخر بتعصبه ويكابر بغيرته الدينية مثلًا أو السياسية، ألا يقدر أن يحب فئة من الناس دون أن يبغض سواها، ألا يقدر أن يكون شريف الروح نزيهها عفيف النفس أبيَّها دون أن يحفر على صفحات قلبه أو على جبينه بأحرف كبيرة: «أنا يهودي» أو «أنا مسلم» أو «أنا مسيحي» أليس في وسعه أن يكون سعيدًا محبًّا لامرأته وأولاده وأهله وبني جنسه دون أن يُعلِّق في ذيل ردائه أجراسَ الشيعة وجلاجلَ الملة كيما تُبشِّر بقدومه حيثما توجه وتُبدِّد بقرقعتها كلما تحرك ذَرَّاتِ السكينة والسلام، أليس له أن يُحب ربه دون أن يبغض أخاه في الإنسانية، ألا يستطيع أن يرفأ ثوبه دون ن يمزق ثوب جاره، أليس في مُكْنَتِهِ أن يصلي دون أن يسب ويلعن ويتمنى لمن لا يصلي مثله الاصطلاء بنار الأبدية، هل تقوم محبة الله بغير محبة الإنسان، هل يستحق أن يكون في ظل الأبوة الإلهية مَنْ لا يساعد على تعزيز الإخاء البشري في الأرض؟
كم مرة رددتْ نفسي هذه الأسئلة؟ رددتها متأملة وهي واقفة في طريق الحياة الواسعة، ومن ورائها الماضي وجدرانه وآثاره وغباره ومن أمامها تمتد شُعَبٌ ضيقة عديدةٌ لطريق الحياة الأصلية الواحدة، شعب تحير المسافر وتزعجه وتُدهش المتبصر وتوقفه، فها قد وصلت مع عقلي وروحي إلى حيث يصعب الحكم في الأمر، أنظل سائرين في طريق الحياة الرحبة التي لا يتخذها إلا العددُ القليل من البشر أو ندخل إحدى الشعب الممتدة أمامنا لنكمل سياحة حياتنا الدنيا؟ وإذا عدلنا عن طريق الحياة الأصلية أَيَّ شعبة نأخذ، أي شعبة أسهل وأوسع وأجمل، أي شعبة أقصر وأقرب إلى الدار التي نقصدها؟
فيا سقاة العالم! إن خمركم ماء مصبوغ، إن ماءكم عكر يلزمه تقطير، إن فيه كثيرًا من الحشرات فيلزمه فحص مدقق، وعلى من يفهمون ويميزون أن يصفوه ويطهروه قبل الشرب. العقل هو المصفاة التي تقينا من جراثيم الكذب والغش والتمويه، الاعتقاد لازم للبشر ولكنه يضر إن لم يُقرن بالتساهل، فكما أنني أُريد الغير أن يحترم اعتقادي يجب عليَّ احترامُ اعتقادات الغير، وإذا احتقرت عقيدة ما دون سبب واجب تُحتَقر —لا شك —عقيدتي وتُمتهن. التساهل المتبادل إذًا هو الدواء الشامل لكل هذه الآفات الاجتماعية والدينية، أي: أن وصفتي لداء التعصب هي هذه السلبية: لا تعارض الإنسان الذي يمزج لبنه بالماء؛ لأنك أنت تتاجر أيضًا بنوع من الماء المصبوغ تدعوه خمرًا، فغض النظر عنه إن كنت تريد المحافظة على مصلحتك القائمة بالغش وهو يغض النظر عنك، ولكن يا ما أُحَيْلَي البعد عن اللبان وذاك الخمار معًا، يا ما أُحَيْلَي التجارة التي يكون الصدق فيها العنصر الأكيد. قال الشاعر الألماني غِرثي: «إن واجبنا الرئيسي في حياتنا الدنيا هو أن ننظر إلى كل شيء بتعقل وتدقيق دون تحزب أدبي.» فالتحزب —وبالأخص التحزب الديني لا يولد إلا التشوش والاضطراب وكل أمر رديء، وأحسن ما قاله الشاعر العربي:
وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
وأصبح قلبي قابلًا كل صورةٍ
فمرعى لغزلان وديرًا لرهبان
وبيت لأوثانٍ وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب كيف توجهتْ
ركائبُهُ فالحب ديني وإيماني
امين الريحاني