التجدد أو التطوير يصيب كل شيء فيجعله أعلى عالٍ أو يرده أسفل سافل!
كان عهدنا بالصوم قبل اليوم أن يكون عصياناً للنفس في طاعة الله، وحرماناً للجسم في مبرة الروح، ونكراناً للذات في معرفة الناس، فالجوارح مغلولة عن الأذى، والمشاعر مكفوفة عن الشهوة، والخواطر مستغرقة في الدعاء، بين نهار كله إحسان وتأمل وتصدق، وليل كله قرآن وتواصل وتهجد، فلا الغني يهيج به البطر، ولا القوي تفرط عليه القدرة، ولا الفقير يتجهم له الحرمان، وكأنما زالت الفروق بين الناس فأصبحوا سواسية في نعمة الدين وسعادة الدنيا!
كان الرجل الدنيوي الشهوان إذا أقبل عليه رمضان تاب وتطهر، فلا يفتح فمه لهجر، ولا عينه لفحش، ولا أذنه للغو، ولا قلبه لخطيئة. يقضي يومه مضطرباً في المعاش على أفضل ما يكون الخلق، فإذا كان تاجراً لا يدلس، أو صانعاً لا يزور، أو عاملاً لا يفرط، أو معاملاً لا يخون. ويحيي ليله في استماع القرآن ومواصلة الإخوان ومودة ذوي القربى، فإذا ما انقضى بعض الشهر بدا عليه شحوب الصوم وذبول الصلاة وكلال السهر وخشوع الورع. فلو كنت حاضراً ذلك العهد لرأيت رمضان عيداً قومياً ودينياً يؤكد أسباب القرب بين الله وعباده، يوثق عرى الحب بين الشعب وأفراده.
***
ذلك عهدنا برمضان الأمس، أما رمضان اليوم فبحسبك أن أصف لك حياة من حيوات القاهرة فيه، وتستطيع أنت أن تصور لنفسك الطور العجيب الذي آل إليه شهر القرآن والعبادة.
هي أسرة لا أقول إنها مثال لكل الأسر، ولكنها استجابت لنوازع التجديد الأبله استجابة الإمعة، فأصبحت تمثل ما عسى أن يكون بين التقاليد والتقليد من التناقض المضحك.
ميم باشا يتبوأ منصباً من مناصب الدولة الرفيعة. بلغه بعد حياة طويلة كادحة، تبتدئ من القرية الحقيرة والأسرة الفقيرة والوظيفة الخاملة، وتنتهي إلى هذا الجاه العريض والثراء الضخم والمنزل المرموق، فهو وزوجه من عهد، وأبناؤه وبناته الثلاث من عهد، والتفاعل بين هذين العهدين هو الذي أحدث هذه الظاهرة التي تجدها اليوم في أكثر بيوت القاهرة. لابد لهذه الأسرة أن تصوم، ذلك حكم النشأة وسلطان العادة. ولابد كذلك لهذا الصوم المتزمت الجافي أن يتسع باله وترق حواشيه إذا ما استضاف هذه الأسرة. فهو يسبل جناحيه الرؤومين على أسرتها الوردية الوثيرة من طلوع الفجر إلى متوع النهار، ثم يمس بريشها الناعم خدود الأوانس والنواعس فينتبهن، ويهب الوالدان على زقزقتهن في غرف الزينة وطنف القصر؛ ثم يجتمع بعد قليل مجلس الأسرة لينتظر في مقترحات البطون في إدارة المطبخ، فهذه تقترح، وتلك تعترض، وهذا يطلب لوناً، وذاك يطلب آخر، والباشا يدير هذا الجدل الشهي إدارة موفقة، فيعدل أو يكمل أو يؤجل، حتى ينتهي النقاش بثبت حافل بالمشهيات والمقليات والمشويات والمحشوات والفطائر لا تجد بعضه في مطعم كبير.
يتغير هذا الثبت كل يوم فيطول أو يقصر، ولكن لونين فيه لا ينالهما تغير ولا يمسهما نقص: لون من الأرانب مطبوخة في النبيذ يحبه الباشا، ولون من الشرائح الوردية مطعمة بفصوص من شحم الخنزير تحبه الآنسة الكبرى سين!
ها هو ذا الباشا البطين يتذبذب وئيداً بين المطبخ والمائدة كأنه رقاص الساعة، في يده مسبحته الكهرمان الصغيرة يهش بها على الطهاة والخدم، وشفتاه تختلجان من غير كلام، وعيناه تتحركان من غير نظر، حتى إذا دنت المغرب خفت حركته واحتد نشاطه فأقبل على المائدة ينسق الآنية، وينضد الأكواب، ويسكب لكل آكل الشراب الذي تعوده، فهنا قمر الدين، وهنا منقوع التين وهنا الكينا، وهناك الفرمود، وهنالك إفيان، وأمامه هو شراب صحي فاخر من صيدلية (يني)، ثم يدبج الخوان المخملي بنوافل المائدة من السلطات والكوامخ، ويترتب الألوان مع النادل على أصول مقررة في الفن، ثم يسرح بعد ذلك بصره في السماط المكتظ فيرتد إليه ملآن بالرضا والعجب، فيخرج إلى الردهة، ومن الردهة إلى الشرفة، فيلقي النظرة الأخيرة على الشمس الغاربة، ثم يعود فيرى الأسرة بجنسيها لم تفرغ بعد من إعداد الأهب للسهرة الراقصة، فالحلل تُنتقى، والحلي تُختار، والشعور ترجل وتموج، والأظفار تدرم وتصبغ، والحواجب تدقق وتخطط، والخطوات واللفتات والبسمات تتكرر أمام المرايا لتراض وتتقن. حتى إذا انطلق مدفع الإفطار من الراديو أهرعوا إلى المائدة إهراع جنود الإطفاء إلى السيارة، ثم يجلس الباشا بين بنيه ويضع المسبحة المعلومة مكان القدح المجهول، ثم يرفعه إلى فيه وهو يقول: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت» ثم يقبلون على هذه الآكال وهذه الأشربة إقبال الشره الفاره! فلو رأيتهم حسبتهم صاموا العام كله ليفطروا في رمضان!
أذنت العشاء فصلاها الباشا الصالح، ولم يكد ينفلت منها حتى أخذ يُعد مقصف الليلة من النقول المختلفة، والأشربة الهاضمة، والأزهار الجنية. وأخذت الأسرة زينتها النمامة الكاشفة واجتمعت في البهو الفسيح الفخم تستقبل أسراب السيدات والأوانس ومعهن أبناؤهن وإخوتهن من الأيفاع والشباب، فيعزف البيان، ويخفق العود، وتشدو الكواعب، ويهزج الحاكي، ويدور الرقص على نمطيه الشرقي والغربي، فتلتف الأيدي على الخصور، وتلتصق الصدور بالصدور، وتمتزج أنفاس الكحول بأنفاس العطور، ويقف رمضان المسكين من هذه المناظر المريبة وقفة شيخ من شيوخ الدين دفعت به الأقدار إلى ماخور!
هذه والله صورة ناطقة لأسرة أعرفها ويعرف أمثالها الناس فمن عرفها فسيقول قصَّر، ومن جهلها فسيقول بالغ، والحق أنها الواقع لا تنقصه إلا تسمية الأسماء وتعيين المنزل.
أحمد حسن الزيات رحمه الله
رمضان سنة 1356هـ