ليس هناك نظرية أو تعريف أو حتى علاقة اتفق فيها كتاب الأدب الساخر تربط بينه وبين مساحة الحرية فمتى ما عرف الإنسان ألم السياط أو حرقة الهزيمة جاءت السخرية, وولدت مقاومة الهزيمة بسلاح السخرية. هناك حد فاصل يقف حاجزاً بين الكتابة الساخرة وبين «التهريج».. الذي لا يرى هذا الحد هو ذلك الذي لا يفرق بين من يرقص طرباً ومن يقف على حافة الزجاج. فالأدب الساخر -كما يراه- أحمد الزعبي «يجب أن يكون بياناً سريّاً بين الكاتب والقارئ, بين الهمّ والضحكة, بين الوجع وصاحبه, بين القلم والممحاة كرسائل العشّاق سرية وخجولة وبينية , يكون البوح الهادئ فيها بين حمرة الجرح وحمرة الشفاه, بين الحرف والحرف, بين الغرّة والشال.. فالسخرية قهوة الكادحين... والضحك دخانهم المجاني» وكما يعرف فخري قعوار الكتابة الساخرة» بأنها تعكس صورة الواقع بجماله وقبحه، ولكن بأسلوب مختلف عن الكتابة العاديّة.
وقال عنها الشاعر شوقي بغدادي: إنها «صمام الأمان الذي يمنع طنجرة الضغط التي أحملها فوق كتفي من الانفجار! هي وسيلتي كإنسان ضعيف للتوازن في هذا العالم المليء، هي فن (الخيمياء) الذي يحول معادن الحياة اليومية الخسيسة إلى معادن نفيسة! بالسخرية يتحول الألم إلى ضوء.
من خلال هذه المحاور تقترب (المجلة العربية ) من الأدب الساخر لتتعرف على كتابه من خلال طرح عدة تساؤلات:
هل هناك حد فاصل يقف حاجزاً بين الكتابة الساخرة وبين «التهريج؟» .. وأين هو الحد الذي يمكن أن نقول كل ما دونه ليس أدباً ساخراً؟
هل صحيح أنه كلما زادت مساحة الحرية قلت مساحة السخرية وهل الحرية تتغذى بنقصانها فكلما نقصت الحرية زادت الحاجة إلى الأدب الساخر؟
ما هو الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فهل يضحي مهرجاً؟
الأدب الساخر يتبلور عندما تتراجع الحرية
الكاتب الساخر عبدالعزيز السويد يؤكد أن هناك حداً فاصلاً يحجز بين الكتابة الساخرة والتهريج، وقد يبدو شفافاً دقيقاً إلا أنه حد ساخن جداً بل ملتهب، يحرق أصابع من لا يحسن التعامل معه، من الأخطاء الشائعة الخلط بين فن الكتابة الساخرة والتهريج أو الإضحاك، وهو خلط يأتي من العامة غالباً، الكتابة الساخرة لها قيم وأهداف تصون حدودها وكلما كانت معلومة حق العلم لدى الكاتب، لن يقع في فخ التهريج .
وعن الحد الذي يمكن أن نقول كل مادونه ليس أدباً ساخراً يرى السويد أنه من السهل التنظير في هذا الجانب إلا أن ما يخفى ويستتر هو الإحساس، شفافية الكاتب تجاه محيطه الخاص والعام وقضايا يتعامل معها ، وهو ما يصعب بلورته في كلمات أو جمل.. إنه شعور، لذلك أشرت إلى أن الكتابة الساخرة لها قيم وأهداف.. لابد أن تكون عامة إنسانية سامية ونبيلة المقصد، ولاشك أن في هذه الجزئية اختلاف آراء لكني لا أتوقع أن يكون اختلافاً كبيراً.
ويضيف: ذكرت أنه من الصعب وضع حد ملموس؛ لأن من طبيعة البشر الاختلاف إلا أن هناك مسلمات، مثل تناول كل ما ليس للإنسان إرادة فيه، خلقته مثلاً، تصنيف اجتماعي حشره في المجتمع.. إلخ من أمور لا تخفى، هذا في جانب التناول، أما المتناول أي الكاتب الساخر ففي تقديري لا يصح أن يحول نفسه إلى مادة للضحك لأجل إرضاء القراء أو استحلاب إعجاب.
ويضيف السويد: إن الأدب الساخر يتبلور بصورة أكثر حدة عندما تتراجع الحرية، ويعتقد أن الأدب الساخر المغموس بالمرارة هو الأكثر نموا في ظل هذه الظروف، أما مسألة الحاجة له، لاشك أن هناك حاجة له وإلا لم يجد كل هذا القبول ومحاولات الكتاب الانخراط فيه، وفي ظل نقص الحريات هناك حاجات لا تعد ولا تحصى..تتمحور حول التعبير وإيصال الأصوات المخنوقة.
ويقول السويد: إذا لم يكن للكاتب الساخر هماً عاماً واضح الدلالات يلمس القارئ أثرها فيما يكتب وتصل بيسر وسهولة إلى المتلقي وتعبر عنه وعن قضايا يئن منها فهو اقرب لما وصفته بالنكتجي. ولا ننسى أن الأخير له حاجة أيضاً.
لايوجد كاتب ساخر بل أدب ساخر
ويقول القاص فهد المصبّح إن دريد لحام وبرنارد شو وشارلي شابلن هم أحسن ما يقاس عليهم في العمل الساخر, والسخرية في أصلها مذمومة وتأتي محمودة في مواضع قليلة منها الأدب الساخر مكتوباً أو مجسداً في عمل مسرحي أو سينمائي ويضاف حديثاً الكريكاتور الساخر فقد يندرج تحت الأدب الساخر الهادف وهناك حد فاصل وخيط رهيف جدا بين الأدب الساخر والتهريج أو الاستهزاء لا يمكن رؤيته بسهولة ولا يدركه إلا الذوق السليم ومن وجهة نظري أن الأدب الساخر هو القادر على إبكائك كقدرته على إضحاكك وهو ما يتوافر في الشخوص الثلاثة شابلن ودريد وشو لكن هل السخرية تكمن في الشخص أو المشخص بفتح الخاء هنا معضلة أخرى. ولا دخل للحرية بالسخرية تمدداً أو انحساراً, السخرية تنبع كردة فعل من أوضاع العالم المتردية والفقر على سدتها, وأدبنا العربي فيه الأدب الساخر جلي في أعمال الحطيئة والفرزدق والجاحظ وربما شعر الصعاليك الثائر يصلح أن يكون نظرية للأدب الساخر والظرفاء في أدبنا أو الندماء ينطلقون من هذا الجانب مغلفين نقدهم وربما إرشاداتهم بالنكتة كما عند بهلول وأبو نواس وابن المغازلي وغيرهم واعتمادا على المحور في ركيزته لا يوجد كاتب ساخر أو ممثل ساخر بل عمل ساخر أو أدب ساخر وهو ما يضحك بقدر ما يبكي –ويرى المصبح-أن الأدب الساخر يتغذى على أوضاع المجتمع المزرية ناهلا منها أحداثا تضخم أو توضع تحت الضوء لتبدو مضحكة ولكنها في نفس الوقت غاية في المرارة والبؤس والأمثلة الثلاثة كثيرا ما أضحكونا وأبكونا على حد سواء وهو أدب صعب لا يتقنه إلا ندرة من الموهوبين في هذا المجال.
محسوبية
وجاءت إجابات محمد السحيمي تحمل بذور السخرية الموجعة, وبسؤاله إن كان هناك حد فاصل يقف حاجزاً بين الكتابة الساخرة وبين «التهريج»؟
قال وهل يعيش العالم العربي بلا حدود؟ ولكن الحد بين الكتابة الساخرة والتهريج ـ ككل الحدود العربية ـ سهل الاختراق بالمحسوبية حيناً، وبالرشوة أحياناً، وبالفهلوة دائماً!
وعن الحد الذي يمكن أن نقول كل مادونه ليس أدباً ساخراً..
يقول السحيمي حد الله ما بينك وبين المحسوبية حيناً، والرشوة أحيانا، والفهلوة دائماً!
وعن رأيه فيما يقال: كلما زادت مساحة الحرية قلت مساحة السخرية وهل الحرية تتغذى بنقصانها فكلما نقصت الحرية زادت الحاجة إلى الأدب الساخر؟.
أجاب السحيمي: اسمح لي أنا أرى المعادلة مقلوبة تماماًـ ككل الرياضيات في العالم العربي ـ فكلما زادت مساحة الحرية ازدهرت الكتابة الفنية الساخرة! وبعبارة مباشرة فإن من لا يقبل النقد العاقل الرصين -ولد الحمايل- لن يقبل المسخرة!
وماهو الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر؟
السحيمي: هو الفارق بين من يكتب القصيدة ومن يلقيها! وبين من يرسم اللوحة ويبسط بها في شارع الحوامل! حوامل اللوحات لاتفهموا خطأً!
تسخير الحروف
تقول القاصة نورة الأحمري: من خلال تجربتي في الكتابة الصحفية والأدبية أرى أن الكتابة لها حد رفيع جداً وقليل من يتحكم فيه ويعرف كيف يسخر الحروف في رسم الحرف الأحمر الذي يكون بلونه ساخر دون تجاوز الخطوط الحمراء، وهذا هو الحد الفاصل بين السخرية والتهريج ، فالتهريج هو دمج للحروف حتى تضحي وكأنها معجونة بالسماجة دون طائل من كتابتها.
وتضيف: إن الشيء الممجوج هو الحد الفاصل، فما معنى أن أرص مجموعة من الكلمات والهدف منها التهريج الذي قد يتجاوز إلى المساس بالذات. وتشير إلى أنه لا يوجد أدب ساخر في ظل مساحة الحرية، فكلما زادت مساحة الحرية لم يعد للسخرية مكان ، بمعنى أن الحرية المقننة أو المحجوبة هي من يولد الأدب الساخر.
وترى أن مصطلح النكتجي ولدته لنا مواقف الحياة وإطلاق النكتة في المواقف العصيبة، بمعنى أن وجود هذه الفئة التي لا توجد إلا في المجالس لتداول الضحك على مواقف دون تقديم حلول لوضع ما، عكس الكاتب الساخر الذي يسخر الحرف في خدمة قضية معينة، وبهذا الأسلوب يسهم في حل ما قد يكون مجهولاً، ومن أجمل الأشياء الساخرة اليومية ما تتناوله الصحف في فن الكاريكاتير، وهو فن ساخر ولكن ذا مغزى وهدف.
توظيف ذكي للكلمة
ويؤكد الكاتب الساخر يحيى با جنيد أن التهريج سطحية وابتذال، والسخرية عمق.. والكتابة الساخرة توظيف ذكي للكلمة، لا يأخذ تأشيرة دخول أو خروج من أحد.. إنه يذهب مباشرة إلى غايته.. لا يحتاج إلى شهود.. فـ(الحال) شاهد (شاف كل حاجة)!.
أما (الأراجوز ) فهو ( مسلّي غلابا) .. مضحكاتي يحتال على لقمة عيشه.. يضحك من نفسه في النهار، وعندما يأتي المساء يبكي على (المخدّة)!!
هو ليس بالضرورة صاحب فكر ، لكنّ صمته أبلغ وأوقع!.
في كل المناخات ازدهر الأدب الساخر.. إنه هو الذي يصنع الحربة ولا يستجديها.. إنّه يقوّم.. ويعلّم .. فلا يسعنا إلا أن نسلّم .. ونبصم.. ونختم!.
لو كان مناخ الحرية شرطاً لوجود الأدب الساخر لما كان بين أيدينا هذا الزخم الهائل من الأعمال الضخمة على مستوى العالم!.
وهو إن مال في بعض الظروف إلى التلميح فإن له وقع التشريح .!
طق قلم
ويقول محمد صادق دياب: إن الكتابة الساخرة جادة جدا وذات هدف، و«التهريج» مجرد «طق حنك» أو «طق قلم» لا يحمل هما ولا غاية. الكاتب الساخر طبع وفطرة وتلقائية، و«التهريج» تطبّع وصنعة وتكلف. الكتابة الساخرة خلق وإبداع وإبهار، و«التهريج» تقليد واتباع واجترار.
الكتابة الساخرة: فولتير، وود هاوس، عبد العزيز البشري، إبراهيم المازني، أحمد قنديل، ومحمود السعدني، أما «التهريج» فـ»على قفا مين يشيل».
وفي تحديد حد فاصل بين الكتابة الساخرة و«التهريج» إيحاء ضمني بأنهما يتقاربان أو يتشابهان، وفي ذلك ظلم كبير للكتابة الساخرة، فنحن هنا كمن يسأل عن حد الفاصل بين نهر الدانوب وبين بحيرة «المسك».
ويضيف.. يقول فولتير: «السخرية محاولة لتفادي الانتحار أو الجنون»، ويقول آخر: «الكتابة الساخرة مانعة صواعق ضد الانهيار النفسي»، وفي نعيم الحرية ليس ثمة ما يدفعك إلى الجنون أو الانهيار، أو حتى الالتفاف بكلماتك المفخخة عبر «رأس الرجاء الصالح». الكتابة الساخرة -أحياناً- تهريب للمعاني في لفائف السخرية لتصل إلى غاياتها، حينما تكون هناك رسوم جمركية باهظة على الكتابة والكلام. نعم كلما زادت مساحة الحرية تختار الكلمة أقصر الطرق إلى غاياتها، ومع ذلك ستظل الكتابة الساخرة حيّة لا تموت، فالحرية الكاملة حلم يصعب مناله على هذا الكوكب.
ويفرق دياب بين الساخر والنكتجي بقوله «النكتجي» والكاتب الساخر كالفرق بين قارئ سيرة عنترة في المقهى الشعبي وبين عنترة ذاته. الكاتب الساخر هو الذي ينسج عبارته المتفردة بمغزل سحري، بينما «النكتجي» يستمد بضاعته من المتوافر في أسواق «كل شيء بريال». الكاتب الساخر طاقة إبداعية هائلة، أما «النكتجي» فمجرد «بلياتشو»، وبدلا من الذهاب إلى ضرورة أن يمتلك الكاتب الساخر «نظرية» في ظل صعوبة الاتفاق على مفهوم دقيق لمصطلح «النظرية» يمكن القول: إن الكاتب الساخر صاحب رؤى ومواقف تمده بالخلطة السحرية اللازمة للكتابة الساخرة.